مقدمة في فلسفة السياسة
Abstract
لقد بدأنا هذا البحث بالنظر في التراث الفلسفي المتقدم، وخاصة التراث الإغريقي، في محاولة لتفهم طبيعة القضايا التي أثيرت في مجال الفكر السياسي، وأبدينا اهتماما خاصا بوقع ذلك التراث الفلسفي القديم على الفكر المسيحي من جهة، وعلى الفكر الأوربي المعاصر من جهة أخرى. ولم نفعل ذلك من باب الفذلكة التاريخية. وإنما قصدنا أن نشير له إلى أن نصف الفكر السياسي الغربي المعاصر قد تولد من التراث الإغريقي والتراث المسيحي، ونصفه الآخر هو وليد لحركة الارتداد عليهما معا ٠ وما لم ندرك التداخل بين الفكر المسيحي والفكر الإغريقي فقد لا ندرك جوهر حركة الإصلاح الديني، وما تبعها من حركات تطهيرية، وجوهر الحركة العلمانية. وما يتفرع عنها من فلسفات في مجال الاجتماع والاعتقاد ٠
أما من الناحية الأخرى، فقد أدرجنا عز البحث فصلا عن الفكر السياسي في الإسلام. ابتداء بالمدينة الفاضلة للفارابي وانتهاء بنظرية الدولة عند ابن خلدون. ولم نفعل ذلك من باب المضاهاة الشكلية بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي، وإنما أردنا أن نؤشر على محاولات "التوطين الفلسفي" التي قام بها الفارابي وابن سينا (أي توطين جوانب من الفكر الإغريقي في فضاء الفكر الإسلامي) وما نجم عنها من جدل، وما تولد عنها من اتجاهات فكرية مناهضة للفلسفة الإغريقية. كما أردنا من ناحية ثانية، أن ننظر في الآثار الفكرية المترتبة على تبني الشيعة الإسماعيلية لنظرية «الحاكم-الفيلسوف» عند أفلاطون وتحويلها إلى نظرية « الإمام المعصوم»، ثم تحويلها ، يسند كبير من الدولة الفاطمية في مصر، إلى قوة أيديولوجية مناهضة لإيديولوجية الخلاقة العباسية ٠
لقد وفر لنا هذا الجانب من البحث أن نرى ردة الفعل الهائلة من بعض علماء السنة وهم يردون على الشيعة الإسماعيلية من جهة، ويؤسسون لنظرية في الدولة تبدأ «بالإمام المختار» وتنتهي بطاعة الإمام المتغلب «صاحب الشوكة».
على أن بحثنا لم ينته عند تتبع تطور الفكر الغربي والإسلامي وتفاعلاتهما الداخلية والبينية، وإنما تمدد قليلا، في خطوة غير مألوفة؛ ليبرز الرؤية القرآنية لفلسفة السياسة. وقد قادتنا هذه المحاورة إلى توضيح الرباط الوثيق بين الأخلاق والسياسة والقانون في النظام الإسلامي. كما قادتنا إلى إدراك أن الخلاف بين الرؤية القرآنية والرؤى الأخرى يتسع اتساعا عظيما لسبب هذا الربط عينه، فالرؤية القرآنية رؤية توحيدية، أما رؤية المذاهب المادية المخالفة (الوضعية والديمقراطية الليبرالية والشيوعية) فرؤية انفصالية، أي أنه بينما يرتكز الإسلام على أساس أخلاقي، ويسوق المؤمنين نحو غايات أخلاقية عبر وسائط السياسة ومؤسساتها. تسقط هذه المذاهب المرتكز الأخلاقي المبدئي، وتسقط معه الغايات الأخلاقية وتجرد السياسة لتكون مجرد علم وصفي، وتجعل الدولة مجرد أداة للإكراه القانوني منفصلة عن الدين والأخلاق ٠