ندوة تجسير: التجسير بين معاني التكليف ورؤى ما بعد الانسانوية
Abstract
نظَّم فريق تحرير مجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية التابع لمركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة "سيمنار تجسير" الأول عن بعد، وذلك يوم الأحد الموافق 16 أكتوبر 2022، وقد كانت الندوة بعنوان: "التجسير بين معاني التكليف والرُؤى ما بعد الإنسانوية"، والتي قدَّمها الدكتور مشاري الرويح، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة قطر.
أدار الندوة الباحث عبد العزيز الخال، أحد أعضاء فريق تحرير مجلة تجسير، والذي أشار، في بداية تقديمه للندوة، إلى أن سيمنار تجسير عبارة عن ندوة شهرية، تستضيف عالمًا أو باحثًا للحديث عن واقع الدراسات التجسيرية، أو حول علاقة الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه الباحث مع الحقول المعرفية التي تتقاطع مع تخصص الباحث في تناول الظواهر الإنسانية والاجتماعية.
وقد افتُتحت الندوة بكلمة الدكتور نايف بن نهار، مدير مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة قطر، الذي نبَّه على حاجة التجسير بين العلوم المختلفة وتعزيزها في العالَم العربي، كما أشار إلى أن البدء بالدكتور مشاري الرويح كان موفقًا، باعتباره أحد رُوَّاد التنظير الاجتماعي في العالَم العربي، حيث يمتاز بقدرة كبيرة في استكشاف البُنى الماورائية عن النظريات والمعارف المطروحة في العلوم الاجتماعية، مع قدرة على الربط بين العلوم المتباعدة، كما أشار الدكتور نايف إلى أن العلوم الشرعية فيها مداخل كثيرة للارتباط بالعلوم الاجتماعية، سواء أكان ذلك على مستوى أصول الفقه، أو المباحث الفقهية، أو علوم الحديث، وأن توظيف العلوم الاجتماعية في العلوم الشرعية والعكس بالعكس يُعدُّ بِكرًا في العالَم العربي خصوصًا، والعالَم الإسلامي عمومًا، مع أن القرن الحادي والعشرين يُعدُّ قرن التركيب، بخلاف القرن العشرين الذي كان مهتمًا بالتفكيك، فلا بد من الحاجة إلى التركيب بين الأفكار، وهذا لا يمكن بالتفكير الأحادي للمعارف التخصصية.
وبدأ الدكتور مشاري حديثه بالإشارة إلى الفكرة الأساسية للمحاضرة، وهي حل المشاكل المعقدة والنقد المعرفي والقيمي في المشهد المعرفي الغربي، في ظل التوجه إلى الرُؤى ما بعد الإنسانوية في العالَم الغربي، حيث يمثل الرؤية ما بعد الإنسانوية نوعًا من الانحدار بالإنسانية من خلال التنازل عن التميز المعرفي والقيمي ومشاركته الفاعلة مع الحيوانات والجمادات، وذلك من خلال تقديم التكليف وما يرتبط به من معاني العلم والقدرة والعزيمة كبديل إسلامي لمواجهة هذه الظاهرة.
وقد عرَّج الدكتور الرويح على مسارات المعرفية الغربية التي يسير عليها في التعامل مع الظواهر، حيث تعتمد على النمذجة المبنية على الرياضيات كمدخل تجسيري لحل المشاكل، كما تعتمد على الفلسفة كمدخل بيني للإرشاد والنقد القيمي والمعرفي، في حين لا يُوحد أي موقع للوحي في خريطة المعرفة الغربية، مشيرًا إلى أن النمذجة الرياضية لتدبير شؤون العالَم تُعدُّ "استكبارًا علميًا"، حيث إن طريقة النمذجة عجزت عن تقديم رؤى كلية لقضايا الوجود والقيم والمعرفة، ومع ذلك حاول تقديم حلول للمشاكل اعتمادًا على التنظيم الذاتي والمحاكاة الحاسوبية؛ فكانت النتيجة الطبيعية لهذه العملية أن نُقلت الفاعلية من الإنسان إلى النظام الذي أصبح الإنسان جزءًا منه.
وهذا الاستكبار العلمي الذي كان يزعم أن بإمكانه إصلاح حركة التاريخ، وتمييز المنظومات الفكرية الصالحة من الفاسدة، والتفريق بين الوعي الزائف والوعي الصحيح، ودعوى امتلاك الحق الحصري لمعرفة الحقائق، وقد انتهى به الأمر في نهاية المطاف إلى خسارة أي معنى للقيم والمعارف، والتوجس من الأسس المعرفية والقيمية للحشد لأي عمل جماعي، متجهًا نحو التمرد الفردي الذي يرفض التعامل مع الحقائق والمعايير والحدود، وهو ما أفقده القدرة على بناء الحجة الأخلاقية، ومن ثمَّ يرى الفشل طريق التغيير! فكانت ضحية هذه العملية هي الفاعلية الإنسانية.
ومن هنا قدَّم الدكتور مشاري التكليف بالمعنى الشامل، وليس بالمعني الأصولي الفني، كبديل للفاعلية الإنسانية، وذلك في إطار التجسير المعرفي، حيث إن التكليف يستند إلى قوة التوحيد، وتاليًا يمتلك القدرة على التعامل مع التفكيك الإنساني، كما إنه يُعلي من قيم المسؤولية الأخلاقية، التي تربط العلاقات الدولية بجوهر الفاعلية الإسلامية؛ لأنها القنوات الرئيسة في ظل الاستكبار العلمي الغربي تمثل مصادر تجهيل البشر عن التكليف، الذي يرعى العلم والعزم ويبنى القدرات لمقاومة تفكك العلاقة بين الأمر الإلهي والفاعلية الإنسانية، باعتبار أن التكليف في سياق العلاقات الدولية يقوم بالوظيفة الإنشائية التي تربط الجزئيات المعاصرة بالكليات الشرعية، بناءً على التصورات القيمة الإسلامية، كما يقوم التكليف بالوظيفة التطبيقية التي تحاول أن تنزِّل أحكام الجزئيات على الحالات الواقعية؛ فالأول يقدِّم الإرشادات والنقد القيمي المعرفي، في حين أن الثاني يقدم الحلول لمشاكل الواقع، وهكذا يجسِّر التكليف بين مسار الإرشاد والنقد القيمي المعرفي ومسار حل المشاكل.
وقد تفاعل الحضور مع المحاضرة بشكل لافت، من خلال طرح الأسئلة حول بعض القضايا، أو الإشادة بقيمة التجسير المعرفي بين معاني التكليف في مواجهة الرؤى ما بعد الإنسانوية.