قواعد فهم الحديث النبوي في ضوء الكتاب والسنة
Abstract
الملخَّص
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على المبعوث رحمة للعالمين، نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه، وتابعيه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فمن المتَّفق عليه عند العلماء أن السنَّة النبويَّة المطهَّرة هي التفسير العملي للقرآن الكريم، فقد كان صلى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله وتقريراته وأخلاقه وصفاته البيانَ النظري، والتطبيقَ العملي للقرآن الكريم تحديداً، إن لم يكن المنهج الشمولي للإسلام، يؤيد هذا قولُ السيدة عائشة رضي الله عنها حين سُئلت عن خُلُقه صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان خلُقُه القرآن)( ). فالسنَّة النبويَّة عموماً هي المبيِّنة الشارحة للقرآن الكريم، المؤكِّدة لمضمونه، الموضِّحة لأحكامه، المفصِّلة لمجمله، المقيِّدة لمطلقه، المفسِّرة لمبهمه، المخصِّصة لعامِّه، فضلاً عن أنها ـ بحكم منزلتها من التشريع ـ قد تأتي بأحكام جديدة سكت عنها القرآن الكريم.
ومن نافلة القول أن القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة مكملان لبعضهما وحياً وتشريعاً، لحديث: (ألا إني أوتيت القرآنَ ومثلَه معه)( ). فلا يُتصور عقلاً أن تُخالف السنَّةُ الصحيحة الثابتة القرآنَ، ولا أن تعارض محكَمَه أو تناقضَه، لأنه الأصلُ الذي تتفرَّع عنه، والمرجعُ الذي تستند إليه، وبالتالي فكلُّ حديث تظهر فيه المعارضة للقرآن الكريم، أو غيره من الأحاديث الثابتة فلا بدَّ فيه من أحد أمور ثلاثة؛ إما أن يكون الحديث غير ثابت ولا صحيح ـ أي موضوع أو ضعيف ـ، أو أن يكون التعارض ظاهرياً، يمكن لدى أهل التخصص في هذا الميدان من أهل الذكر أن يُزيلوا هذا التعارض، وذلك بردِّه إلى الأصول العلمية والمنهج التطبيقي، أو أن يكون فهمُنا له فهماً غير صحيح، إذ لو فهِمْنَاه صحيحاً لظهرت موافقته للقرآن الكريم، ولَزَال ما قد يتراءى لنا فيه من تعارض. والشواهد على ذلك كثيرة.. وبالتالي فدعوى التعارض مرفوضة. كما أن ردَّ الحديث الشريف لمجرد تعارضه مع القرآن الكريم مرفوض أيضاً. بناءً على ما قد يُتوهم من معنى التعارض. والأمر ذاته يمكن إسقاطه على الحديث الصحيح.
بيد أن الفهم السليم للحديث الشريف يستلزم أن يُفهَم في ضوء القرآن الكريم، والسنَّة الثابتة الصحيحة، بعيداً عن الفهم الخاطئ، والتأويلات الفاسدة التي تخرج أحياناً عن دائرة الصواب، بل يزداد الشطط أحياناً أخرى حين نلحظ فهماً شاذاً يُقَعِّد لأحكام عجيبة مغايرة لروح التشريع، أو يؤصِّل لفتاوى غريبة لا تتجاوز في كونها محضَ افتراءات على الدين، وهو منها براء. من هنا كان لا بدَّ من وضع ضوابط محكمة، وشروط حاسمة، تحدد حقيقة وجوهر فهم الحديث الشريف، في ضوء القرآن الكريم والسنَّة الثابتة.
ولدى البحث في هذه القضية نجد أنفسنا أمام مبادئ أساسية، وقواعد ثابتة تحكم هذا الموضوع، لا بدَّ من التقيد بضوابطها، والالتزامِ بشروطها، كأساس للفهم السليم للنصوص، إذ إهمالها يسبِّب اضطراباً في فهم النصِّ، يرجع إلى خلل في وسيلة الفهم للنصِّ، لا في ذات النصِّ. ويمكن حصر هذه المبادئ والقواعد فيما يلي:
أولاً: الدلالة اللغوية في فهم النصوص، وما يتبعها من دلالات شرعية وعرفية ولفظية، آخذين بِعَين الاعتبار مقاصد التشريع الثابتة والوسائل المتغيرة، وسبب ورود الحديث والمناسبة، وزمان ومكان وموضوع الحدث، ومراعاة سياق النصِّ، وما له صفة التشريع من عموم النصوص، وما ليس بتشريع مما له صفة الخصوصية.
ثانياً: الدلالة النصِّية في توثيق النصوص وثبوتها، وما يتبعها من تطبيق قواعد علم مصطلح الحديث، من حيث درجةُ الحديث وصحتُه سنداً ومتناً، وخلوُّه عن صفات الجرح والضعف، وتحقُّقُه بشروط الصحة أو الحسن، وإعمال معايير علماء الحديث في قبول الروايات وردِّها. وذلك بثبوت الرواية الصحيحة، واستبعاد ضعيفها، إذ الأصل في اعتبار الرواية إنما يعتمد في الأساس بناءً على ثبوتها وتوثيقها.
ثالثاً: الدلالة التوجيهية في جمع النصوص أو الترجيح بينها، وما يتبعها من اعتبارات فنِّية، من حيث جمعُ الروايات في الموضوع الواحد، وإزالةُ ما قد يبدو ظاهراً من التعارض، وذلك بمعرفة الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيَّد، والحقيقة والمجاز، والمنطوق والمفهوم، والظاهر والمؤوَّل، والمجمل والمبين، وغيرها، وإمكان التوفيق بين هذه النصوص عند التعارض، ولا شك أن الجمع بين الروايات خير من الترجيح فيها، إذ فيه إعمال للنصَّين، وهو خيرٌ من إهمال أحدهما. ويتجلَّى ذلك بتطبيق الموازين الأصولية الثابتة في علم الأصول، ثم توجيه الروايات حين ثبوتها لا ترجيحها، وشتَّان بين الأمرين، وهذا فنٌّ عظيم في تتبُّع أسرار التشريع، وإظهار أوجه الحكمة فيه. ويُقصد بالتوجيه هنا: إظهار أهداف التشريع وحكمته، والوقوف على أسراره وحُجَّته. : : فالوحي بنوعيه؛ المتلوِّ وغير المتلوِّ منزَّهٌ عن الهوى، قال الله تعالى: (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى) .[النجم: 3ـ4]، فتبقى الهمَّة متوجِّهة لاستخلاص محاسن التشريع ومقاصده، واستنباط خصائصه ومزاياه.
وقد جاء البحث في مقدمة، وخمسة مباحث رئيسة، وخاتمة. تناولت في المقدمة أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، والباعث عليه، وأفردت المبحث الأول لأهمية السنَّة في التشريع؛ ببيان مكانتها فيه، ومنزلتها من القرآن الكريم، وحجِّيتها، ثم عقَّبت في المبحث الثاني بذكر جهود العلماء في خدمة السنَّة وحفظها، وتدوين علوم الحديث، واستوفيت في المبحث الثالث الدلالات العلمية لفهم الحديث، كما حددت في المبحث الرابع قواعد وضوابط فهم الحديث في ضوء القرآن الكريم والسنَّة الثابتة، ثم ذيَّلت في المبحث الخامس بذكر تطبيقات عملية لجمع الأحاديث في الموضوع الواحد. وجاءت الخاتمة محددة أهم النتائج المستفادة، والتوصيات المقترحة.
وقد توخَّيت في البحث الالتزام بقواعد وأصول البحث من حيث التقيد بالمنهج العلمي؛ والاستدلال بالحديث الصحيح دون الضعيف، والتوثيق العلمي المنهجي لأقوال العلماء، كما تقصَّدت البحث بموضوعية وإنصاف، مجرَّد عن النزعة والتحيُّز، والقول بالهوى والعصبيَّة، فإن يكن ما وصلت إليه صواباً فذاك الفضل منه سبحانه، وأحمده تعالى على توفيقه، وإلا فمنِّي ومن الشيطان، وأستغفر الله تعالى منه.
وختاماً أسأل الله تعالى تمام التوفيق والإخلاص، ودوام النجاح والسداد، وحسن القبول والرشاد. وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه وتابعيه بإحسان، والحمد لله رب العالمين.
DOI/handle
http://hdl.handle.net/10576/4319Collections
- Islamic Studies [67 items ]