شعرية الاغتراب في رواية بروكلين هايتس
Abstract
مثلّتْ التشكُّلاتُ الدرامية لظاهرة الاغتراب –الحاضرة في الطروحات الفكرية والفلسفية والنفسية والاجتماعية والدينية - أحدَ المرتكزات الموضوعية للخطاب الروائي العربي الحديث، الذي استدرج الظاهرة إلى منطقة المراجعة وفقًا للشروط الجمالية للسرد، واشتبك معها بغية توطيد غاياته في إدانة الأطر الفكرية والثقافية للآخر الغربي المُستعْمِر، أو لمُعادِلِه السلطوي الإقليمي أو المحلي، وفي تبيان خداع بعض ما يكتسي المظهر البرّاق أو المثالي في المركزيتين الغربية والشرقية، وفي بناء نسق تاريخي للتحوّلات التي أصابت المجتمعات العربية في مواجهتها للغرب، أو في استقبالها لجملة من التغيرات التي أعادتْ تشكيل بنيتها الداخلية، وفي غيرها من القيم الوظيفية ذات الأبعاد الأيديولوجية والأبيستمولوجية، وأحيانًا الأثنية، وإن ظلت هذه السرود –بطبيعة الحال- تسيِّج الفعل بأُطره الطبعية المُباطِنة لأشكال العلاقات الإنسانية، بطبيعتها المتشابكة وتأثيراتها المتبادلة.
وعلى الرغم من الطبيعة القلقة لمفهوم الاغتراب خاصة في إطار علاقته بمفهوم الغربة فإن بعض الاستقرار قد تحقق في التعاطي مع المفهومين – دون فصل- باعتبار أن الغربة تكرس لفعل المجاوزة المادية للفضاء الأصيل، والاغتراب يرتبط بحالة الانفصال الشعوري والذهني عن السياق، والعجز عن التناغم مع منظومته القيمية، وتدابيره السلوكية المتجذرة في وعي أفراده، فالغربة تشير إلى الخارج الإنساني ، كمعنى مجردٍ. أما الاغتراب فإنه يشير إلى الداخل الإنساني كشعور مرتبط بمن يشعر به.
غير أن هذا الاستقرار لا ينفي العلاقة المنطقية بين الحالتين في الكثير من الحالات، وهو ما يفسر حدوث التشابك الدرامي بينهما، في العديد من المتون الروائية، التي رأت في غربة الشخصية سبيلاً منطقيًا – في أبسط الفرضيات وأقربها إلى الذهن- يرْشَح بحالة الاغتراب، في إطار علاقة السبب بالنتيجة، فرهانات تحقق الحالة الاغترابية للشخصية المغتربة أكبر وأكثر تماسكًا، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن هذه الوضعية يمكن استنطاقها جماليًا بيسر بدفع الشخصية للانفلات من واقعها الجديد الضاغط صوب فضاء الوطن المُغادَر، عبر ممارسة ذهنية تنشط فيها الذاكرة، مما يهيئ لتنامي السرد وتطوره، وتوالد الأفضية الزمنية والمكانية التي يمكن التنقل عبرها لإحداث المزيد من التفاعلات الدرامية.
وفي ظل مجتمع أبوي ترسخ أعرافه الثقافية لنوع من التمييز بين الجنسين، وتكرِّس لثنائية المتن والهامش، فقد ظلت الصياغات الإبداعية للاغتراب –خاصة المرتبط بفعل الخروج والارتحال- حكرًا على الرجل المؤلِّف أو الرجل الشخصية، فأصبح من المألوف أن يكون بطل الروايات التي تتناول موضوع الاغتراب رجلاً بالمفهوم الجنسي الكامل.
ثم تدفقت المتون الروائية النسوية محاولةً تعويض فترة تغييبها، وإعادة الاعتبار للفكر النسوي انطلاقًا من مواقف معينة تصوِّر شخصية المرأة وعلاقتها بمحيطها، ومركزية دورها في الحياة وصولاً إلى رؤيتها للعالم، دون أن تغفل عن الانتقام من ذاك الذي أدَّى دورًا رئيسًا في تهميشها واضطهادها واستلاب حقوقها، لتتشكَّل عبر مسار تاريخي مضطرب حاضنةٌ ثقافية للسرد النسوي تمارس سطوتها على الذات المُبدِعة، وتوجِّهها إلى الاستناد في صياغتها الفنية إلى عدة مكونات أبرزها "نقد الثقافة الأبوية الذكورية، واقتراح رؤية أنثوية للعالم، والاحتفاء بالجسد الأنثوي" .
تطرح رواية "بروكلين هايتس" للروائية المصرية "ميرال الطحاوي" نفسها بوصفها نصًا نسائيًا من حيث المصدر ونسويًا من حيث الموضوع، يستند إلى حالة الاغتراب التي تعيشها بطلة العمل وساردته، دون أن يبرح مقاربة القضايا التي عالجتها الروائيةُ في أعمالها السابقة ؛ كقضايا التنوُّع الثقافي، والهويات، والهجرة، وما بعد الكولونيالية، من خلال سرد تجربة البطلة "هند" التي تسافر إلى الولايات المتحدة -وبالتحديد إلى حي "بروكلين هايتس" القديم بنيويورك- بعد أن هجرها زوجُها الخائن، تسافر مخلفةً وراءها واقعًا مشحونًا بالفقد والخيانة والتفسُّخ، تهاجر إلى بلاد "العم سام" بمُصاحبة طفلها وذكرياتها، لتبحث عن العمل، والحب، والذات. تغوص في تفاصيل حياة القاطنين في هذا الحي بأعراقهم المختلفة، وتستدعي في الوقت نفسه سياقها الشرقي، راصدة ما أصابه من تحوّلات اجتماعية وسياسية وتاريخية، أثَّرتْ في علاقات أفراده ومصائرهم.
تنهض الدراسةُ على أربعة مبادئ أساسية هي:
- النظر إلى التَشَكُّل بوصفه فعلاً إنتاجيًا ثنائي المصدر، يتمخض عن حالة تفاعل بين المُبدعِ ومتنه المُختزِل رؤاه الفكرية، وقناعاته الذهنية من جانب، والمتلقي الذي يؤسِّس في أثناء تعاطيه مع المسرود متنًا موازيًا لا يتطابق بالضرورة مع مقصدية متن المبدع من جانب آخر، وما بين المقصدية الإبداعية والمقصدية الاستقبالية يحضر "التشكُّلُ" كما تعنيه الدراسةُ، ومن ثم فإن الرؤية التحليلية لن تتوقَّف عن حدود مظاهر البناء وآليات الهيكلة والتنظيم، وإنما ستتعدّاها إلى ما يرتبط بها من قيم جمالية، ودلالية، وأيديولوجية، تُمثِّل جوهر الظاهر النصي، خاصة فيما يتعلق بالجانب النسوي الذي لا يمكن مقاربته بمعزل عن سياقاته الحضارية والاجتماعية والثقافية، وما يرتبط بها من توافق مع الثقافة المهيمنة أو تخالف معها.
- يوظِّف السرد النسوي الاغتراب –بوصفه خطابًا- في بناء صوره وتمثيلاته للآخر وللذات، في إطار مفهوم مزدوج للتمثيل، يتشكل عبر مسافة التوتر السردي والمعرفي بين الأيديولوجيا الذكورية والمثالية النسوية المناهضة، والتوظيف لا يعني انخراط النص بكليته في هذا الحالة، فهو ينغمس حينًا، ويتماس حينًا، ويتوسل في أحايين أخرى.
- الإيمان بأن الوصول لوعي أعمق ببنية الخطاب النسوي الإبداعي-في اختلافاته وتآلفاته- يرتهن بتواصل الجهود التحليلية المعنية بالقضايا الجزئية التي تناولها هذا الخطاب، ومنها قضية الاغتراب.
- الوعي بأن النسوية توثِّق حمولتها المعرفية والفلسفية في مختلف تدابيرها، ومنها السرد، الذي هو سرد تعدُّد وليس سرد صدام مع سرد الرجل، فالاختلاف البيولوجي بين الجنسين، وما ينتجه من فروقات هي في حقيقتها عوامل مُحايدة تنعكس بصورة أو بأخرى –وبدرجات متباينة- على التقنيات التعبيرية، دون أن تتحوّل إلى معايير تفاضلية، ليصبح من التعسف تبريرُ أشكال التمظهر النصي لأية ظاهرة أو قضية مُحلَّلة، بوصفها انعكاسًا مباشرًا للتصنيف الجنسي، فمقاربة المنظور النسوي لا يفرض بداهة أن التمايز الجنسي سيؤدي إلى تمايز حاد على مستوى التشفير الإبداعي وقيمه الجمالية، وهو ما يفترض وجود مُشتركات في الرؤى، ووجود تمايُزات تستجيب لمنطق الخصوصيات، وتتجلّى حينًا وتتوارى حينًا.
تتوزّع الدراسة على أربعة محاور هي:
أ. انفتاح السرد ..البنية الدائرية.
ب. النص المؤنث...احكي يا شهرزاد.
ج. الفضاء الزماني..الاستعارة الكبرى.
د. اللغة وتجليات الاغتراب.
DOI/handle
http://hdl.handle.net/10576/15219Collections
- Arabic for Non Native Speakers [8 items ]