المجالس القرآنية في دمشق الشام : أهميتها وفضلها تاريخ نشأتها مناهجها في التحفيظ آثارها
Abstract
الملخَّص
الحمد لله ربِّ العالمين، تكفَّل بحفظ كتابه الكريم، فقال تعالى: (إنا نحن نزَّلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر: 9]. وتعهَّد بجمعه، فقال سبحانه: (إن علينا جمعه وقرآنه) (القيامة: 17]، وأمر نبيَّه باتِّباع القراءة أسلوباً وطريقة، كما تلقَّاه مشافهة من أمين الوحي عن ربه عزَّوجلَّ، فقام يتلوه متأسِّياً بقوله تعالى: (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) (القيامة: 18]، وتتالى القرَّاء يتلمَّسون نهج القراءة والإقراء، واختصَّ الله تعالى به أقواماً حفظوه لنا، فجعلهم أهلَه وخاصَّته، مؤكّداً ذلك بحديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله أهلين من الناس)، قيل مَن هم يا رسول الله؟ قال: (أهل القرآن، هم أهل الله وخاصَّته)( ). وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيِّدنا محمد، المعلِّم الأول للقرآن الكريم، وسيِّدِ مَن حاز الخيريَّة في تعلُّم القرآن الكريم وتعليمه، فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه)( )، وأعظمَ مِن حيازة شرف حفظ القرآن الكريم، حين أعلن مآل حملته وأهليهم يوم القيامة. فعن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَن تعلَّم القرآن فاستظهره وحفظه، أدخله الله الجنة، وشفَّعه في عشرة من أهل بيته، كلهم قد وجبت لهم النار)( )، وأعلى مِن قدْر مَن مهر في تلاوته، بأن جعل رتبته في صحبة الملائكة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاقٌّ له أجران)( )، وبعد:
فإن مما تشرَّفت به هذه الأمة اختصاصها بخدمة هذا الكتاب العظيم، الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد البشرية وخير الناس، نبيِّنا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا سيِّدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فحفظه الرجال والنساء، والكبار والصغار، صدراً وسطراً، وتناقلته الأجيال، كابراً عن كابر، تواتراً مؤكّداً.
وقد تميَّز بحفظه خواصٌّ، نذروا أعمارهم لخدمته، وبذلوا وقتهم لنشره، ووظَّفوا طاقاتهم في سبيله؛ حفظاً وتحفيظاً، تعلُّماً وتعليماً. واشتُهروا عبر التاريخ بألقاب القرَّاء والحفَّاظ والجامِعِين، وكانوا بحقٍ منارات الهدى في عيون الطالبين، اختصَّهم الله تعالى باستيداع كلامه العظيم في صدورهم، وائتمنهم على هديه العزيز في ذاكراتهم، وانتشروا في البقاع والأصقاع عبر الدهور والعصور، فتكاد لا تجد زمناً إلا وفي عواصم الأمصار الإسلامية الشهيرة أعيان مشرقة لهؤلاء الحفظة، ونماذج مشرِّفة لجهودهم المباركة في تحفيظ القرآن الكريم.
ومن نافلة القول أن يُعدَّ شيخ القراء محمد بن محمد ابن الجزري الدمشقي رحمه الله تعالى أشهرَ روَّاد القراءة والإقراء في عصره بدمشق، وبموته تراجعت أنشطة القراءة فيها، إلى أن أحياها منذ قرنين تقريباً آل الحلواني، ومِن بعدهم آل دبس وزيت والكردي وسكَّر وغيرهم، ممن تميَّزوا بتمام ضبطهم وإتقان أدائهم، واشتهروا بنشاطهم في إحياء القراءة والتحفيظ. وقد آثرت في بحثي اختيار قرَّاء دمشق وجهودهم في تحفيظ القرآن الكريم كأنموذجٍ فيه يُحتذَى، ومثالٍ به يُقتدَى، باعتبار نشأتي في هذا الجو القرآني المميَّز، ومعاصرتي لعدد من شيوخ القراءة فيه، وما أكرمني الله تعالى وشرَّفني به، من قراءةٍ وحفظٍ وإجازةٍ، على عدد من أكابرهم، ولله الحمد والمنَّة.
وقد اخترت لبحثي خطَّة تفرَّعت إلى مقدِّمة، وتمهيد، ومبحثين رئيسين، وخاتمة؛ تناولتُ في المقدمة أهمِّية حفظ القرآن الكريم في حفظ مقوِّمات الأمَّة وثوابتها، وفضل القرآن الكريم في حفظ اللغة العربية كمرجعية لها، ورمزيَّة القرآن الكريم في وحدة الأمة، وجمع كلمتها، ومصدر قوَّتها، وأثر هذا الحفظ في تربية الأجيال الصاعدة. وجاء التمهيد يوضِّح تاريخ علم القراءات في دمشق. واستعرضت في المبحث الأول تاريخ نشأة مجالس قراءة القرآن وتحفيظه، بذكر نماذج مميَّزة لدُور ومدارس وأُسَر وبيوت قرآنيَّة دمشقيَّة عريقة، اشتُهرت بالقراءة والإقراء؛ فعرَّفتُ بها، وبيَّنتُ دورها وأثرها في نهضة ظاهرة التحفيظ في دمشق، واستعرضت نماذج من حلقات الحفَظَة والقرَّاء والجامِعِين الدمشقيين المميَّزين، مشيراً إلى جهود النشاط النسائي في ظاهرة التحفيظ. وتعرَّضتُ في المبحث الثاني لمنهجية هذه المجالس في تحفيظ القرآن من خلال بيان جهود خيِّرة طيِّبة، وخبرات مميَّزة نيِّرة في طريقة التحفيظ، قام بها في دمشق شيوخ متخصصون في هذا المجال، وآتت _ ولا تزال بفضل الله تعالى تؤتي _ ثمارها يانعة؛ فاستعرضتُ خططها وطرائقها، واستشهدتُ بنماذج حيَّة من مساجد ومراكز ومعاهد للتحفيظ، وأشرت إلى نماذج من برامج التحفيظ، ونشاط جمع القراءات. وبيَّنتُ ظاهرة انتشار الإجازات في القراءة حفظاً وجمعاً، والحرص على اكتسابها. منوِّهاً بمنهجيَّة الحفَّاظ في طريقة الحفظ. ثم خلصتُ في الخاتمة إلى مجموعة من النتائج المستفادة، والتوصيات المقترحة التي تثري البحث، وتبرز أهدافه.
وقد سلكت في البحث المنهجَ العلمي، فحرصتُ على توثيق المعلومات من مظانِّها المعتمدة حسب الأصول، وتجنَّبتُ الإطناب المملَّ، وتقصَّدتُ إبرازَ هدف البحث المنشود؛ من إلقاء الضوء على الجهود المميَّزة لمجالس القراءة والقرَّاء الدمشقيين، في نشر ثقافة الحفظ والتحفيظ للقرآن الكريم، ونيل الإجازة بالسند فيه، والدور المبارك الذي توارثوه، وكيف كان _ ولا يزال، ولله تعالى الحمد _ ينبض بالروح العالية، ويخرِّج الأجيال الصاعدة الحافظة والمتقنة والجامعة، وهذا من مبشِّرات الكفالة التي تكفَّل بها ربُّنا سبحانه في حفظ كتابه العظيم.
وختاماً أعرض بحثي هذا من خلال منبر مجلتكم الكريمة، راجياً أن تكون المساهمة مجدية في التواصل البحثي، وتبادل الخبرات العلمية والعملية، وتمازج الأفكار والرؤى، وتوافر الجهود وتضافرها، سعياً لخدمة القرآن الكريم، وتنافساً في بذل كلِّ نافع وجديد، لتنشيط وتحديث وتطوير عملية الحفظ والتحفيظ في العالم الإسلامي، وتنشيط علم القراءات والإجازات فيها، فالعلم رحِم بين أهله، والله من وراء القصد، وهو المولى ونعم النصير.
DOI/handle
http://hdl.handle.net/10576/4323Collections
- 2012 - Volume 30 - Issue 1 [10 items ]
- Creed and Dawa [144 items ]