إشكاليّة التعليل بالحكمة أو بمظنّتها (العلّة): دراسة أصوليّة
الملخص
أهمّ النتائج التي وصلنا إليها في الكتاب هي:
1. المعرفة الدّقيقة بمعاني العلّة والسّبب والمظنة والحكمة، والتّمييز بينها في السّياقات الأصوليّة المختلفة، أمرٌ في غاية الأهميّة للباحث في الأصول، يُجنِّبه الوقوع في كثير من الأخطاء في الفهم والاستنتاج، وقد حصل ذلك كثيرًا قديمًا وحديثًا.
2. تُطلق العلّة بالاشتراك اللفظي عند الأصوليّين إزاء معنيين رئيسين: السّبب والحكمة:
3. أمَّا السّبب: فهو الوصف الظّاهر المنضبط الذي رتَّب الشّارع على حصوله ثبوت الحُكم في حقّ المكلّف تحصيلًا لحِكمة الحُكم. فهو، بظهوره وانضباطه، يُعرِّف المكلَّف بحصول الحُكم حتّى يمتثله، وهو مَظِنَّة حِكمة الحُكم، أي أنّ من شأن ربط الحُكم به، وجودًا وعدمًا، تحقيقَ حكمة الحُكم التّكليفي في الغالب. والعلّة بمعنى السّبب تُطلق بإطلاقين: تامّة وناقصة: فالتّامّة هي المجموع الـمُكَوَّن من الوصف المقتضِي للحُكم مع تحقُّق شروطه وانتفاء موانعه، والنّاقصة هي المقتضِي للحُكم وحدَه، دون شروطه وموانعه. ومن جهةٍ أخرى تنقسم العلّة السّببية إلى نوعين: سبب منصوص. ووصف ضابط للسّبب المنصوص. فالمنصوص هو ما ثبتت سببيّته للحُكم بالنّصّ أو الإجماع، وضابط السّبب المنصوص: هو وصفٌ، مُستنبطٌ في الغالب، ظاهرٌ، منضبطٌ، يشتمل عليه السَّبب المنصوص، يُناط به الحُكم، عِوضًا عن السّبب نفسه، تحقيقًا لحكمة الحُكم المترتِّب على السّبب. وعادةً ما يؤدِّي نوط الحُكم بهذا الضّابط إلى توسيع أفراد السّبب أو تقليلها أو كليهما من جهتين مختلفتين.
4. وأمَّا الحكمة، فهي مقصد الحُكم وغايته. ويمكن تعريفها بأنّها: المعنى المصلحي المقصود جلبه أو دفعه من تشريع الحُكم إن كان تكليفيًّا، أو المتضمَّن فيه إن كان وضعيًّا، أو قل: هي باعث الشّرع على التّكليف بالحُكم، أو على وضعه. والعلّة بهذا المعنى ضربان: حِكمة الحُكم، وحِكمة السّبب. فحكمة الحُكم: هي المعنى المصلحي المقصود جلبه أو دفعه من تشريع الحُكم التّكليفي: كالتّيسير ورفع المشقّة المقصود من إباحة الفطر للمسافر. وحكمة السّبب: هي المعنى المصلحي الذي لأجل اشتمال سبب الحُكم عليه، علَّق الشّارع الحُكمَ بهذا السّبب، وذلك لتحقيق حكمة الحُكم التّكليفي المترتِّب على هذا السّبب في نهاية الأمر: كالمشَقّة المتضمَّنة في السّفر التي من أجلها جُعل السّفر سببًا لإباحة الفطر لتحقيق حكمة التّيسير.
5. لفظ العلّة إذا جاء في كلام الأصوليّين في مقابل السّبب فالمراد به الحكمة، وإذا جاء في مقابل الحكمة فالمراد به السّبب.
6. العلّة - إذا قُرنت وقُوبلت بالحكمة - فإنّها تكون مظنّة المصلحة، أو أمارة المصلحة، أو ضابط المصلحة، في حين أنّ الحكمة هي المصلحة نفسها أو وجهها. وقد انبنى على هذا الفرق الجوهريّ بينهما فروقٌ أخرى ذُكرت في الكتاب.
7. ممّا تشتدّ حاجة الخائض في مباحث العلّة والتّعليل إلى ملاحظته، أنّ العلّة بكلا معنييها قد تتعدّد وتتسلسل بالنّسبة إلى حُكمٍ واحد. والمقصود بذلك أنّ العلّة قد لا تكون مظنّةً للحِكمة النّهائيّة مباشرةً، بل مظنّةً لوصفٍ آخر، وهذا الوصف بدوره مظنّةً لوصف ثالث، وهكذا...
8. أسباب الاشتباه والاختلاف والخلط في كثيرٍ من مباحث العلّة والتّعليل يمكن ردّها إلى ثلاثة: أحدها: عدم التّمييز في سياق بحث المسائل هل المقصود بالعلّة فيها التّامّ منها أو النّاقص، أو العلّة الموجبة أو الغائيّة، فكلّ نوعٍ من هذه العلل له خصائص تقتضي شروطًا وأحكامًا مختلفة. والسّبب الثّاني: عدم التّمييز في سياق المسائل بين نوعي الحُكم التّكليفي محلِّ التّعليل، أهو الحُكم الثّابت بخطاب التّكليف أو الثّابت بخطاب الوضع، والتعليل للحكم الثابت بخطاب التكليف أخف وأقل شروطًا من التعليل للحكم الثابت بخطاب الوضع. والسّبب الثّالث: عدم ملاحظة خاصيّة التّسلسل في العِلل، وأنَّ ما قد يُعدّ مظنّة وعلّة بالنّسبة لحكمةٍ ما قد يكون في الوقت نفسه حكمةً بالنّسبة إلى وصفٍ أدنى منه ولو مجازًا.
9. فرّق كثير من المعاصرين بين نوعين من الحكمة: حكمة الحُكم وحكمة السّبب، ولا ثمرة تُرجى عَمَليًّا من هذا التّفريق لذلك أغفله عامّة المتقدِّمين، إلا أنْ تتسلسل العلّة فيُحتاج إلى هذا التّفريق حتّى يحسُن تصوّر المسائل والأمثلة.
10. المظنّة هي المحلّ الذي يُظنُّ وجود حِكمة الحُكم فيه، وهي في الغالب منصوصة لا مستنبطة، على عكس الحكمة. وهي أعمّ من السّبب من وجه، والسّبب أعمّ منها من وجهٍ آخر.
11. التّعليل يأتي في ستّة معان، أهمّها في مجال أصول الفقه ثلاثة ذُكرت في الكتاب.
12. التّعليل بالمظنّة يقابِل التّعليل بالحكمة ويضادُّه، والقول بأحدهما في فرع من الفروع يقتضي ترك الآخر، والعكس صحيح.
13. التَّعليل بالحكمة لا يُقصد به عند الأصوليين، كون الشّريعة معلَّلة بالمصالح أو لا (مسألة تعليل الأحكام)، ولا يُقصد به مجرّد إبداء الحكمة دون نوط الحُكم بها، ولا يُقصد به القياس بالحكمة على الحُكم الابتدائي الثّابت بخطاب التّكليف، وإنَّما يُقصد به أمران: أحدهما: نوط الحُكم بالحكمة إذا عاد ذلك على المظنّة المنصوصة التي قُطع عنها الحُكم بالتّخصيص. والآخر: القياس على الحُكم الثّابت بخطاب الوضع بواسطة الحكمة (القياس في الأسباب).
14. في ضوء تحرير المقصود بالتّعليل بالحكمة رأى الباحث خطأ بعض المعاصرين عدَّ مسألة تعليل الأحكام من مشمولات موضوع التّعليل بالحكمة، وخَطَأَ آخرين في مبالغتهم في الإنكار على المانعين من الأصوليّين من التّعليل بالحكمة بالمعنى الذي حُرّر في الكتاب.
15. «التّعليل بالمظنّة» هو نوط الحُكم، وجودًا، أو عدمًا، أو كليهما، بالمظنّة، وهو يُطلق في مقابل «التّعليل بالحكمة» الذي هو نوط الحكم، وجودًا، أو عدمًا، أو كليهما، بالحكمة.
16. لحصول المظنّة والحكمة في آحاد الوقائع المحكوم فيها ثلاثُ حالات: الأولى: أن يحصلا معًا في الواقعة محلّ الحكم. والثّانية: أن ينعدما معًا. والثّالثة: أن تُوجد إحداهما في الواقعة دون الأخرى. وفي هذه الحالة الأخيرة فقط يحدث الإشكال الفقهي، ويُحتاج إلى الموازنة والتّرجيح بين التعليل بالمظنّة والتّعليل بالحكمة.
17. القاعدة العامّة التي تحكم عمليّة الموازنة بين نوط الحكم بالمظنّة ونوطه بالحكمة عند الفقهاء والأصوليّين، بإطباقٍ منهم، هي أنّ الأصل أن يُناط الحكم بالمظنّة لا بالحكمة. ويخرج عن هذا الأصل إلى التعليل بالحكمة في أحوال استثنائية.
18. الغاية من التّعليل بالمظنّة لا بالحكمة هي تشوُّف الشّارع إلى الضّبط والحَسْم والوضوح في وضع الأحكام وسنّ القوانين. ومقصد الضّبط هذا ينطوي على مقاصد أو مصالح أخرى. فالضَّبط، على التّحقيق، ليس غايةً في نفسه، بل الغاية الحقيقيّة هي ما يترتَّب عليه من مصالح للمكلّفين أفرادًا وجماعاتٍ. وتتمثّل هذه المصالح - المترتّبة على الضّبط - في ثلاثة معانٍ يمكن عدُّها الغايات المصلحيّة لنوط الأحكام بالمظانّ دون الحِكَم، وهي: التّسهيل، والاحتياط، وقطع النّزاع. وقد تجتمع هذه الغايات، كلّها أو بعضها، في المثال الواحد والمسألة الواحدة، وقد يتجلَّى انفراد أحدها أو غلبته على غيره في أمثلة أو مسائل أخرى.
19. رغم أنّ القاعدة العامّة عند الفقهاء هي نوط الحكم بمظنته لا بحكمته فإنّ الحُكم عندهم كثيرًا ما يتردّد بين أن يُناط بالمظنة/العلة أو بالحكمة.
20. ثمّة أربعة أشكال لتصرفات الفقهاء في الحكم عندما يتردّد بين أن يُعلّل بالمظنة/العلة أو بالحكمة، وهي:
الأول: قطعُه عن المظنّة المنصوصة، وإدارته مع الحكمة وجودًا وعدمًا.
والشكل الثاني: عكس الأول وهو: أن يديروا الحكم مع المظنّة المنصوصة، ويقطعوه عن الحكمة بالكلّية.
والشكل الثالث: أن يُبقوا الحكم دائرًا مع المظنّة المنصوصة لا مع الحكمة، ولكن يشترطون في المظنّة شرطًا إضافيًّا التفاتًا إلى الحكمة.
والشكل الرابع: وهو عكس السابق: أن يديروا الحُكم مع الحكمة لا مع المظنّة المنصوصة، ولكن يشترطون مع تحقُّق الحكمة شرطًا إضافيًّا التفاتًا إلى المظنّة المنصوصة.
21. ميلُ الفقيه إلى تقرير الحُكم بحسب ما تقتضيه المظنّة (التعليل بالمظنة)، أو ما تقتضيه الحكمة (التعليل بالحكمة)، تؤثِّر فيه عواملُ متعدّدة، هي باستقرائنا العوامل التسعة الآتية:
(أ) كون المظنّة أو الحكمة منصوصة أو اجتهادية.
(ب) وجود نصٍّ صريح يلغي التعليل بالمظنّة أو الحكمة في عين الواقعة.
(ج) مدى احتياج التعليل بالمظنّة، أو بالحكمة، إلى تأويل ظاهر النصّ أو تخصيصه.
(د) مذاهب الصحابة في الواقعة محلّ النظر، وهل جرت مع المظنّة أو مع الحكمة.
(ه) مدى الخفاء أو الاضطراب في الحكمة، والذي قد يتغيّر بتغيّر الزمان.
(و) مدى إفضاء المظنّة إلى الحكمة، والذي قد يتغيّر بتغيّر الزمان.
(ز) مدى قوّة مناسبة الحكمة لحُكم الواقعة.
(ح) مدى انفراد الحكمة بحُكم الواقعة.
(ط) كون الواقعة المعلّلة في مجالٍ يكثر فيه التعبُّد، أو في مجالٍ يكثر فيه التعليل.
وآخر دعوانا أنّ الحمد لله رب العالمين
DOI/handle
http://hdl.handle.net/10576/59989المجموعات
- الفقه وأصوله [59 items ]