فهم القرآن بين القواعد الضابطة والمزالق المهلكة
الملخص
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, محمد وآله وصحبه ومن والاه, اللهم إنا نبرأ من حولنا وطولنا وقواتنا, ونلوذ بحولك وطولك وقوتك؛ فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا قبضتها يا أرحم الراحمين, اللهم إنا نسألك يا حنان يا منان يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام أن تجعل أقوالنا, وأفعالنا, وحركاتنا, وسكناتنا, فيك لك خالصة؛ إنك على كل شيء قدير أما بعد :
-1- فإن كتاباً من الكتب السماوية أو الأرضية لم يلق من العناية والاهتمام مثلما لقي القرآن الكريم, فقد تفرد هذا الكتاب الكريم بعناية أهله به ,عناية فاقت الحصر, وزادت عن حد الكفاية والحاجة بمراحل طوال, وآماد بعاد, فقد عدوا سوره وآياته, وكلماته وحروفه, وسجداته, وتواتر ذلك جيلاً بعد جيل, وقبيلاً بعد قبيل, من لدن نزوله على قلب المصطفي قبل ما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمان إلى الآن, إلى أن تقوم الساعة.
وما ذلك إلا جزء من أجزاء وعد الله تعالى بحفظه بقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" [الحجر: 9], حتى بلغ حد العناية أن يقول الجيل الرائد: «سلوني عن كتاب الله فوالله ما تسألوني عن آية إلا وأن أعلم فيمن نزلت ومتى نزلت وأين نزلت".
-2- ولم يكن هذا الجهد من الجيل الأول في حفظ القرآن الكريم والحفاظ عليه إيعاب ذاكرة مجردة, أو استظهار قلب غافل, بل تبع ذلك الحفظ الذي لا ينخرم, والاستظهار الذي لا ينصرم معرفة بمضامينه, وقضاياه, وأمثاله, وقصصه, وأوامره, ونواهيه, وحكمه, وإشاراته, وتلتهم الأجيال المتعاقبة تكتب في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالقرآن الكريم, في مكيه ومدنيه, في إحكامه وتشابهه, في نزوله, وحججه,وفي قصصه, وتصويره, وإعجازه, وبيانه, يستوقفون أنفسهم عند نتائجه, بعد تعرفهم على مقدماته, ويقفون على قضاءه, بعد معرفتهم لأدلته وبيانه, أخرج مسلم في صحيحه أنه لما نزل قول الله تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ" [الأنعام: 82] قالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه قال- صلى الله عليه وسلم - : إن الظلم هنا ليس الذي تعنون, إنما هو الوارد في قول العبد الصالح: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم )( ), فانظر كيف استوقفهم المعنى, ولم يتجاوزوه حتى يعوه, فيطبقوه, وكم مرت بنا هذه الآية وأمثالها ولم يتفكر فيها المرء كما ينبغي.
- 3- من هنا أعطاهم القرآن الكريم عزاً حقيقياً, وسؤدداً صادقاً, فقادوا العباد, وفتحوا البلاد, بأمر الله رب العالمين, حتى قال الفاروق وأرضاه:( لقد كنا أذلة فأعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله)( )، وصدق ربعي بن عامر بحاله ومقاله هذا الأمر, فعلم رستم ذلك بقوله: ( إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد, ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام)( )، وما ذلك إلا لانطلاقهم من هذا المصدر الأصيل, الذي هو أول مصادر التشريع الإسلامي الحنيف، ولم يكن أصحاب النبي يقصرون هذا المصدر على جانب التشريع, وناحية الفقه بمعناه المحدود الذي انحصرت فيه الأمة بعد ذلك أجيالاً متعاقبة, وأحقاباً متطاولة, بل كان الفهم القرآني لديهم يغزو كل جنبات الدين, وأركان الحياة, حتى قال عبد الله بن عباس وأرضاه: «لو ضاع مني عقال بعيري لطلبته في القرآن الكريم فإن الله تعالى يقول: ما فرطنا في الكتاب من شيء».
وأصبح الصحابة- رضوان الله تعالى عنهم أجمعين- في فترة محدودة, ومدة معدودة من الزمن ينشرون الضياء, ويهدون الناس إلى الله سبحانه وتعالى.
-4- حتى أتى على المسلمين حين من الدهر تبدلت لديهم المفاهيم, وتغيرت المعاني والمعايير, فأصبحت نظرتهم إلى القرآن الكريم نظرة جامدة هامدة, لا تبني جيلاً, ولا تنشئ حضارة, ولا تؤسس في النفوس الوثبة إلى الإمام, تلك الوثبة التي عاشها السابقون, وبنى عليها اللاحقون, فحققوا في فترات محدودة من الانتشار والهدى والعلم ما يعد معجزة حقيقية في مقياس المنصفين بشهادة أعدائهم قبل أصدقائهم
DOI/handle
http://hdl.handle.net/10576/20898المجموعات
- القرآن والسنة [80 items ]